• Background Image

    News & Updates

October 11, 2018

كـيـف ومـن يُـربّـي أطـفـالـنـا؟

كـيـف ومـن يُـربّـي أطـفـالـنـا؟
 كان يسوع يتقدم بمعنى ( ينمو ) في الحكمة والقامة والنعمة.                                                                                           هذاما كان عليه  بالنسبة للناسوت، الذي كان ناسوتاً كاملاً ينمو ويكبر بشكل طبيعي جداً. كلنا نعلم أن للجسد نفساً كاملة تنمو في المعرفة الطبيعية، كما تنمو نفس أي إنسان، وتزداد في المعرفة والحكمة الإنسانية بنمو القوى العاقلة، وبازدياد الخبرات والمُدركات الحسيّة التي تنتقل إلى داخل النفس عن طريق الحواس. من جميل الله علينا، أنه خصّنا بما يُعرف بالنعمة التي هي فضل وفيض منه على طبعتنا البشرية، أما في المسيح فهي مجد الله الذي ظهر فيه. هذه الآية على صغرها تُفهِمُنا الكثير، لأنها تُبين أن إنسانية المسيح كانت كاملة، واقتبلت النعمة مع تقدم السن والقامة وتطور النمو الجسدي كأي إنسان على الأرض.

الآن، ما عسانا نقولُ عن أبنائنا؟:
هنا يأتي دور الآباء والأمهات بالاشتراك مع المعلمين المسيحيين الذي يجب أن يكون كبير من ناحية تربية الأطفال، وهذا يعني ( بيتيّاً، مدرسيّاً وكنسياً ).
كثيرون من أطفال اليوم، وبسبب التربية الخاطئة، يعانون من عدّة مشاكل نفسية واجتماعية، مما يؤثر على حياتهم وسلوكهم بطريقة سلبية لا تُمكّنهم من أن يعيشوا حياتهم بطريقة طبيعية.
سأشرح الموضوع بطريقة سهلة مع بعض الإسهاب…

أبدأ من البيت الذي هو المحور الأساسي للتربية، ومن أهم الأساسيات في التربية السليمة والصحيحة أن يكون جو البيت صحيّاً، أي يحتوي على مبادئ مُتّبعة في التعامل مع الأفراد داخل هذا البيت. من هذه المبادئ أذكر الإحترام المتبادل بين أفراد العائلة ، والتعامل بإخلاص ومحبة مع بعضهم البعض.
هذا ويُعتبر الوالدان المربيان الأولان لأبنائهم، وأكثر أيضاً، هما الأكثر أهمية على الإطلاق، وعليهم يقع الإلتزام الخطير في تربيتهم لأبنائهم وصقل شخصيّاتهم وتشذيبها، لأنهم هم من أعطاهم علة الحياة، وهذا الدور التربوي مهم جداً، فاذا ضلَّ الأهل فيه، يكون الإصلاح صعب جداً، لكن ليس مستحيلاً فلا تقلقوا. على الوالدين أن يخلقوا جواً عائلياً يتنفّس بالمحبة والاحترام لله وللآخرين ممن هم حولهم. جوٌ يُساعد على تربية أبنائهم الكاملة الشخصية والاجتماعية. فالعائلة إذاً هي المدرسة الأولى للفضائل الإجتماعية التي لا غنى عنها لأي مجتمع وعلينا دائماً أن نكون حاضرين بشتّى الاهتمامات، وهي مُتعدّدة جداً، أذكر منها: العاطفية، الإجتماعية، الروحية والمادية، وهم، أي الأولاد، يتوقعون من أهلهم أن يلبوا لهم هذه الاحتياجات. وعلى الأهل أيضاً دور كبير في تلبية هذه الإحتياجات قدر المستطاع، فلا يجب على الأب أو الأم التقصير في الاهتمام بالأولاد ، لأن ذلك سيؤثر سلباً في شخصية أطفالهم فيما بعد. (قاعدة ذهبية للعمل عليها تقول): الأم مهمّة جداً جداً بالنسبة لطفلها أياً كان جنسه، وأي نقص في أي أمر سيتحوّل إلى مشكلة لاحقاً، وضروري أن أقول أنه هناك تباين بين طفل وآخر وكيف يتأثّر كل فرد جرّاء أي نقص عائلي… ( موضوع الشخصية هذا له مكان خاص ربما نتكلم عنه في حينه ).

يسوع  ضرب مثالاً لاهتمامه بشعبه وبحياتهم عندما أتى الى الأرض وجعل الاهتمام بالآخرين هدفه الأول. وعندما أراد أن يزرع في أتباعه الشخصية التقيّة والحكيمة التي سيحتاجونها ليساعدوه في بناء كنيسته، قضى معهم وقتاً كبيراً. يذكر الكتاب المقدس:” ثم صعد إلى الجبل ودعا الذين أرادهم فذهبوا إليه وأقام اثني عشر ليكونوا معه ليرسلهم للكرازة…” واذا أكملنا القراءة في النص الإنجيلي نرى أن يسوع يدعوا كل واحد باسمه وهناك من غيّر له اسمه مثل بطرس الذي كان إسمه من قبل سمعان.  يُمكن مُراجعة مرقس 3  الأعداد 13- 18 في هذا الصدد.

الوقت الذي قضاه المسيح  مع تلاميذه، وُجدَ ليتعرّف عليهم ويشبّعهم من صفاته ويتعلموا منه. كذلك الآباء والأمهات، هم أيضاً لديهم الدور في الاهتمام بأولادهم  وقضاء وقت طويل معهم كي يشعرونهم بالمحبة ويرشدونهم في كافّة تصرّفاتهم. (ملاحظ أخرى (: بعيداً عن السيطرة وفرض الرأي، خاصة مع المراهقين…

التواجد مع أطفالنا قدر الإمكان:
أهم عامل هو (التواجد)، فلا يجب على الأب أو الأم أن يكونا غريبان عن أطفالهما. وتقع على الأب، عندما يكون بالبيت، مسؤولية قضاء وقته في إدارة شؤون عائلته ولا أي شيء آخر يُمكن أن يستدر أموراً لا تُحمد عقباها في المستقبل، أو على المدى القصير في بعض الأحيان. (تذكير مرة أخرى أن ردود الفعل تتباين بين إنسان وآخر)… الأطفال بحاجة لأن يجدوا آباءهم وأمّهاتهم إلى جانبهم. من أولى الواجبات التبشيرية ( أن تكون لعائلاتنا). ماذا سنحصد إذا ربحنا العالم كله وفقدنا أبناءنا الذين هم من صُلبنا، أو حتى جميع من نحبّهم؟.

باستطاعة الآباء والأمهات الإصغاء لأطفالهم، والتفاعل معهم بحنان ومشاعر صادقة، كما يمكن أن يمضوا معهم أوقاتاً إيجابيةً ونافعة، في القراءة مثلاً أو بعض القصص المُفيدة. هذا جانب من اقتراحات عديدة لخبراء عالميين من أجل جيل أفضل من الأطفال الصحيّين لمُستقبل صحيح.

التواصل (الحوار) بين الأهل والأطفال:
من الممكن أن يتواجد الأهل مع أطفالهم بالجسد فقط، لكنهم غائبين عنهم بالعاطفة، أي لا يُشعرونهم بأي عطف، بل هم فقط موجودين في المنزل وحسب. فالأهل الحكماء هم اللذين يعرفون كيف يتصرفون مع أولادهم، كيف يؤدّبونهم، وفي نفس الوقت، كيف يشعرونهم بالحب بجو يقوم على الحوار والمُصارحة.

الحقيقة تُقال، هذه المهمة تتطلب الكثير من المجهود والانتباه، لأن التواصل هو عملية صعبة للكثير من الآباء والأمهات وللأسف تكون غالباً بالصريخ والسيطرة. إذن، يجب أن يفهم الوالدان كيفية التواصل مع أطفالهم، وعليهم إيجاد مفتاح شخصية كل ولد، ولكل ولد طريقة تعامل تختلف عن أخوته. نعم.. كل طفل له مفتاح مختلف في التعامل كما قلت آنفاً، وعلى الأهل أن يكونوا مدركين لاحتياجات أطفالهم . (ملاحظة هامة):  ما من إنسان يُشبه آخر. لكل منا شخصيّة وهذه الشخصيّة مستقلّة بذاتها ولا تُشبه أي أحد. لهذا غالباً لا يُنصح بالزواج لمن ليسوا على دراية وافية لمشروع الزواج والعائلة، ومن المُستحسن استشارة أخصائيين ومُراجعة السلطات الدينية بهذا الصدد للتأكد من كل ما يُذكر.

ملاحظة: التنويه هنا هو باختيار أناس روحيين مُفرزين من الله لأجل المُساعدة عند الحاجة، وعلينا الانتباه كثيراً ونبتعد عمن أفرزوا أنفسهم. راجعوا الكتاب المقدس في هذا الشأن المُهم.

التحفيز الإيجابي للأطفال:
تعريف كلمة “حفّز” هو أن ننبه أو نحرك أو نستثير عملاً معيّناً، والتحفيز للأطفال هو أن نحضّهم ونُشجعهم على عمل معين، على أن يكون الهدف ليس فقط وقتي أو مشروط، بل تحفيزاً على السلوك الجيد كي يكون الولد قادراً على تكوين شخصيّة اجتماعية مُتّزنة وسليمة في المستقبل، وتكون سلوكهم دائماً إيجابية بعيدة عن العقد الدفينة التي تولد (قبل سن الوعي) أي قبل 5 إلى 7 سنين. وهذا موضوع آخر يطول شرحه، كما وأنه يختلف بين طفل وآخر.

تنشئة الأطفال بطريقة مسيحية:
كل طفل ينشأ في عائلة مسيحية، يحتاج لتربية مسيحية تقوم على المقومات المسيحية الصحيحة، حيث يحتاج لأن يتعلم الصلاة وقراءة الكتاب المقدس وأن يذهب الى الكنيسة. ومن واجب الأهل أن يوفروا له هذا المناخ المسيحي بشكل مُلائم مع بعض الحزم لكن (بدون ضغط أو سيطرة).

تعليم أطفالنا المبادئ الكتابية:
من واجبات الأهل تعليم أطفالهم المبادئ الكتابية لأنها الأساس الأهم لتكوين شخصياتهم، وهنا نذكر الرسول بولس عندما قال لتلميذه تيموثاوس” كل الكتاب هو موحى به من الله ونافع للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب الذي في البر”. أي أن الكتاب المقدس هو مهم جداً في التعليم. فمن المهم والضروري جداً أن نعلمه لأطفالنا خصوصاً وأن الحياة التي نعيشها اليوم، هي حياة صعبة والكتاب المقدس يُساعدنا لنُساعد أطفالنا ويمنحنا وإياهم مناعة ضد الصعوبات التي، أو ربّما تواجههم. فنحن عندما نعلمهم الكتاب المقدس ونهيئهم للدفاع عن أنفسهم ضد التجارب ومخاطر الحياة، نكون كمن يُخزي الشيطان ونُبطل مشاكله ضد المؤمنين المُستقبليين أي أولادنا.

لا يفكّرن أحد أنه ليس باستطاعة الأولاد تلقي هذه التعاليم، بل العكس هو صحيح، فعقل الولد يستوعب أكثر بكثير مما نظن نحن كبالغين.
هذا ونذكر أن تعليم الأب لأولاده لا بد أن يكون باجتهاد ومثابرة كما تقول الوصية في( تثنية7:6)، وباهتمام شديد وحماس لكن تغوص كلمة التعليم في أعماق الأولاد وتؤثر في
قلوبهم ونفوسهم، وليس مجرد نقل معلومات.

ملاحظة: إن كان الأهل يريدون جيلاً ناجحاً يجب عليهم أن يكونوا أيضاً قابلين للتعلّم والتغيّر أيضاً.. فالأب أو المعلم الإيجابي لا يتوقف عن التغيير والتعلم. دعوني أقول لكم أن الإنسان المسيحي يُشابه يسوع: ينمو بالنعمة والحكمة، وعليه أن يزداد في الروح والنعمة والفهم في جميع مراحل حياته…

طبعاً كلمة الله لا تتغير، لنقل بالأحرى أنه يُمكن لفهمنا واستيعابنا نحن لها أن يتغير. هذا بالضبط ما أردتُ قوله.
الرسول بولس هو أعظم مثال على ذلك عندما قال: ” ” أيها الأخوة إني لست أحسب نفسي أني قد أدركت ولكني أفعل شيئاً واحداً إذ أنسى ما هو وراء وأمتد إلى قدام، أسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع”. فيلبي13:3-14.
فإذا كان بولس يقول أن الشخص بحاجة دائمة الى التغيير وتعلم أشياء جديدة، كذلك الأهل، يجب دائماً أن يكونوا مستعدين للتحسين والتغيير حتى في تصرفاتهم الجيدة. فعلى مثال الرسول بولس الذي يريد أن ينسى كل ما هو وراءه من نجاحات وفشل، ويرغب بأن يعمل شيئاً جديداً للرب يسوع، وهذا يكون عادةً إما بنعمة خاصة، أو مساعدة من يُحبّوننا بصدق.

تشجيع الأطفال على الصلاة:
الصلاة هي صلة الإنسان الروحية مع الخالق. هي التنفّس الروحي للمؤمن، الذي بدونه لا يقدر أن يحيا ويستمر روحياً. هي التعبير الصادر عن قلب المؤمن، الذي انسكبت فيه محبة الله بالمسيح وبالروح القدس. هي كلمات المؤمن المولود ولادة ثانية بالروح وبالكلمة، (لأبيه السماوي)، ليحمده ويشكره وليطلب منه تعالى ما يحتاج إليه هو وأحباؤه.
لهذا، على الأهل أن يكونوا المثال الأعلى لأولادهم بالصلاة وتعليمهم كيفية أدائها، وأهميتها في حياة المؤمن. لأن الصلاة هي مفتاح النجاح للعائلة المسيحية، وبالصلاة يسوع يسمع ويستجيب لكل سؤل آتٍ من القلب المتواضع الصادق، فهي تساعد للوقوف ضد التجارب والمحن، وهي عنصر أساسي للبناء الروحي. كل هذه الأسباب وغيرها، هي من مهام الأهل وتوعيتهم لأولادهم. بتعليمنا الصلاة لأولادنا، نحن نسلّحهم بأسلحة الإيمان لتدعيمهم وتقويتهم في وقت الشدّة والتجارب.
ومن خبرتي المتواضعة، أرى أن الصلاة عنصر أساسي في الحياة. تُعطي الإنسان دفعة روحية كبيرة لكي يستطيع أن يتقدم في حياته وتكون عنده شخصية قوية لا تخشى أي شيء في هذا العالم الزائل. الكتاب المقدس يشرح لنا عن الإنسان الذي يسلك بحسب شريعة الرب ومشيئته بأنه إنسان ناجح، بل يقول أن كل ما يصنعه ينجح مزمور 3:1.

في النهاية:
موضوع تربية الأطفال هو موضوع واسع جداً وبحاجة إلى دراسة أكبر وأعمق بكثير، ويجب على كل إنسان، خصوصاً الأهل والمعلّمين ، أن يكونوا جداً مُدركين لتكوين الطفل واحتياجاته وتكوين شخصيته. ولن ننسى أن (لكل طفل شخصية مختلفة عن غيره). ولكي نحصد جيلاً صالحاً ومؤمناً يحب الله، علينا أن نكون قدوة، مثابرين على تعليم الأطفال لكي يسيروا بطرقٍ إيجابية، وأن يكون الله هو محور حياتهم، وأن يكون الكتاب المقدس رفيقهم يقرأون فيه ويتعلمون منه، وأن يصادقوا فقط من يعزز خطواتهم نحو الله. فالتربية الصحيحة يجب أن تكون مبنية على الأسس الكتابية الصحيحة والواعية. على الأهل أن يتمتعوا بالصبر والأناة ومخافة الرب، أيضاً القابلية للتغيُّر والتعلّم لكي يحصدوا أطفالاً إيجابيين ومميزين أينما كانوا.

تذكّروا أنه ليس بالأمر السهل أبداً أن يكون الإنسان والداً مسؤولاً عن أولاد وعائلة.
مع محبّتي للجميع.

نـبـيـل طـنّـوس

October 4, 2018

سياطُ الألم تهوي لتُمزّقَ بوقْعها نياط القلب لا الجسد فحسب

سياطُ الألم تهوي لتُمزّقَ بوقْعها نياط القلب لا الجسد فحسب. تُهوّمُ في الفضاء كدوائر همجيّة شرسة، تسرق ما بقي من قوّةٍ تحت أنفاس مُتقطّعة تزحف خارج الفم كلهاثِ حشرجةٍ تُفيضُ بيدها القاهرةِ روحً من تسكن فيه، تسرقها قسراً إلى الخارج.. ترميها فوق تُرابٍ مُخيفٍ من الوجع الذي لا يرحم.. تمدُّ مخالبها المشوّهة لتطال بها ما بقي من تماسُكٍ يلهجُ به الكيان كله.. وهو.. هو يقرع أبواء السماء مستغيثاً وصارخاً أن .. كفى .. كفى .. أنا لم أعد أقاوم.. رميْتُ بعضَ أسلحةٍ هزيلة، ربما كانت بعدُ باقية هنا أو هناك. هي أيضاً غابت جراء عواصف الضرب الوحشيّ.

وفجأة يتلاشى كلُّ شيء.. يغيبَ الحُبُّ عن الوجود فاقداً وعيهُ تحت سيطرة شرسةٍ لا يوقفها شيء إلاّ حبٌ آخر يُشابهها. وأين هو يا رب؟

تُرى هل يسمعُ الحبُّ نداء الحُبِّ ويهرع لنجدته؟ من لي بأجنحة الزمن أستقرض منها بعضَ هُنيهاتٍ.. لا أطلب أكثر.. أتضرّع إليها أن تُعيرَني القليل من عقارب الوقت الهارب.. ألتمُسها فقط لكي أُرسلَ طائري إلى مساكن الصلاة القابعة فوق.. وبعد فوق.. عند تلك الأعتاب البيضاء التي تُحاكي بياضَ الصُبحِ قُبيل أن تلثمَ ثغره أشعةُ الشمس. هناك حيث يُمكن للتعب أن يلتقط أنفاسه المُتعبة ليصرخ طلباً للرحمة… الرحمة! كم تبدو غريبة هذه الرحمة الآن. بالأمس كنا معاً.. أحبُّها وتعشفني.. نلهو معاً بجمعِ أزاهر الحبّ ونُرسلها أينما كان لا فرق، المُهم أن تصل وتلمس قلوبَ من يستحقّها. حالة عُذريّة نقيّة.. جدُّ خاصة، لا يفهمها من تلطّخت يداه بأوحال هذا العالم البغيض الذي أراه يقفز أمامي كأبالسة الهاوية. أنا أكرههْ يا رب.. لم أعد أريد السكن في هذا العالم.. لا.. لم أعدْ أحتاج البقاء حيث لا يوجد إلا البُغض والرياء وأنواع عديدة لا تُحصى من السموم التي لم أسمع بها إلا بفعلِ وجودي على الأرض… هذه الأرض التي وُجدت كي يُعطى تُرابها أبكار الجمال فيركض ويلعب لاهياً في جنائنٍ بديعة من صُنعِ يديك الخلاّقة يا رب، فإذا بها تتحوّلً إلى بؤرِ فسادٍ مُقزّزة، تفوح منها أبخرةٌ كريهة الرائحة ذات منظر مُرعب. تبدّل الوجود من جميل إلى بغيض! يا الله كم أن خليقتك الحلوة تغيّرت. أصبحت غريبة تسكن في مغاورٍ سوداء قاتمة لا تُشبه ما أعددته لها. ارتـدت أثمالَ القُبحِ الكالحة، تفوح منها روائحُ الفساد بدل عطورِ اللُبان. سيطر الوجع على كل ما هو جميل فسقط الحُب يتلوّى تحت جوْرِ الخُبثِ المؤذية. كم هو بعيد ذلك الحُب الآن… كم أشتاقه… ولكم أصبح غريباً. أنا لم أتعرف عليه حينما التقيتُ به! كان يضعُ قناعاً غريباً، يلهج بلغةٍ لا أفهما، يحمل سوطاً يسحب وراءه شُهبً من نار ويهوي به فوق كياني أنا!! لماذا أنا؟! بالأمس كنا نلعب معاً في نفس المروج التي لم تعد هي أيضاً هنا.. لهفي عليها.. هي أيضاً ضاعت ولا أعلم أين.. رأيتُها تحمل ثياب السواد وترحلُ بعيداً. ناديتُها.. لم تسمع.. مستنقعات هذا العالم المُقرفة ذهبت بسمعها وبصرها.. أطاحت بصوابها فراحت تضربني هي أيضاً.. أنا! ولماذا أناااا؟ ما هي الخطيئة التي فعلتها كي أستحق كل هذا. ثيابي جميلة زاهية.. نظيفة وناصعة هي، لا زالت على نقائها كما وضعْتها عليّ يدُ القُدرة التي جاءت بي إلى تلك المروج الجميلة.. لااااااااااا.. لا.. أنا لم أتغيّر. لم أتبدّل. لم أعرف أن الألم يمكن أن يكون قاسياً لهذه الدرجة المُخيفة التي تسرقُ من الأرواح أرواحها.

جفَّ ريقي يا رب، ولم يعُد لساني الحطبيُّ يُتقن نُطقَ كلمات الوجع الخرساء. هي أيضاً ذهبت بما بقي من لُهاثٍ مُتعب باقٍ هنا أو هناك لا فرق.. وما الهم.. فالحقيقة الوحيدة التي سيطرت على كل شيء، هي أنه لم يعد من أحد أسمه أنا. ها هو دمي المُهراق يُخبر قصة كلٍ ما حدثْ.. فلتخرسَ إذن جميعُ كلمات العالم.

نـبـيـل طـنّـوس