• Background Image

    News & Updates

April 18, 2019

لــيـس هـنا، بـل قــــام

لــيـس هـنا، بـل قــــام

ها أنا أُسرع ولن أتوقّف عند الأحداث التي تسبق فجر القيامة، حتى ولو كانت مترعة بالنبوءات والعمق والمعاني التي يقوم عليها إيماننا المسيحي، بل سأثب فَرِحاً كي أتكلمَ عن القيامة وكل ما يُرافقها، بقدر معرفتي، من آيات ووعود سماوية مُدهشة بجمالها، خاصة وأنها تتناول صحة جميع ما قاله الرب يسوع، وما قيل عنه.

      يوم القيامة، ذُروة الأعياد ونبضُ إيماننا وكياننا. عيدٌ تستعيدُ فيه الكنيسة علّةَ وجودها وأنفاس العِتق. السبب بسيط جداً، لأنّه لو لم يكن هناك قيامة، لم يكن هناك سبب لإيماننا، كما نقرأ في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس “وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ، فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا وَبَاطِلٌ أَيْضاً إِيمَانُكُمْ،”.

غالباً يتأمّل المؤمنون في رواية القيامة بحسب الإنجيليّ مرقس، ربّما لأنه أقدم ما كُتِبْ، أو لأنه بقي مُحافِظاً على روحهِ وأريحيّته ( بعيداً عن التطوير اللاهوتيّ والرمزيّات الكتابيّة ). ببساطته الأولى، مقارنة مع عُمق يوحنّا مثلاً أو لوقا الطبيب الذي تميّز بالوصف الدقيق بسرد إنجيله. بالعودة إلى مرقس، نلاحظ بأنه يتميّز بتواضع تفاصيله وبياناته اللاهوتيّة وإنسانيّته العميقة. لا إسهاب، لا تدبيج ولا أحداث مُفصّلة. لنقل أنها رواية حياة ترك الكاتب فيها مجالاً كي نغوص إلى عمقها لنداعب فيها وجه الحبيب السماوي، أو ربّما (هذا افتراض) لنستشعر بأنفسنا في تفاصيل كل ما حدث دون تأثير من أي نوع كان.

أولاً أردتُ التحليق شطر ذلك الحجر المُدحرج، حيث لا مشاهدَ أخرى إلا النظر إلى ما بعد البعيد للبحث عن الجسد المُقدس القائم بغير فساد… لن أدخل في هم المريمات ولا بمن سيدحرج لهنَّ الحجر. لأن همّهنَّ هو فقط هم بشريّ محض. تعالوا معي.. نرتقى سوياً إلى فوق.. إلى هناك.. حيث ننتمي، ونتابع الكلام …

السيد المسيح قام بعد انتهاء يوم السبت مع نُسيمات بداية يوم الأحد. كأن النسوة، وقد حملن الطيب وانطلقن نحو القبر، يمثلن كنيسة العهد الجديد التي انطلقت من ظلمة (حرف السبت إلى نور حريّة الأحد) الذي يُحاكي رحاب السماوات. الكنيسة التي صعدت من الدياجير لتتمتع بجلال عريسها شمس البرّ مشرقاً على النفوس المؤمنة، محطماً الظلمة. فبعد عبور حزن السبت، أشرق الآن يوم السعادة الذي صارت له الأولوية على كل الأيام، لأن عليه وفيه أشرق النور الأول، وقام الرب غالباً الموت. هنا تكمن غبطة نفوسنا برؤية لوحة ولا أروع.. هلمّوا وانظروا، هنا، داخل قلوبكم، فالقلب يعرف تماماً هذه اللغة العلوية… إن كان “السبت” يشير إلى الراحة تحت ظل الناموس، يقدم يوم الأحد رمزاً للراحة الحقيقية في المسيح يسوع القائم من الأموات. لقد انتظر الرب نهاية السبت ليقوم في بداية اليوم الجديد، معلناً نهاية الرمز وانطلاق المرموز إليه، أي (الواحد). إذن، عيد الفصح هو عيدنا نحن وقد تحوّل إلينا (بجدارة واستحقاق).. وقد انتزعناه بالشكل الصحيح والجديد من الناموس اليهودي الجاف. لقد انتهى بالنسبة للناموسيين، والأمور العتيقة تلاشت مع نور الحياة القائم.. الآن جاء شهر الأمور الجديدة الذي فيه يلزم كل إنسان أن يحفظ العيد طاعةً لذاك الذي قال: “إحفظ شهر أبيب (الأمور الجديدة) واعمل فصحاً للرب إلهك”…

انطلقت النسوة نحو القبر ولم يكنّ يفكرنَ في حرّاس القبر ولا في الختم، لأنهن تركن القبر قبل أن يذهب اليهود إلى بيلاطس ويطلبون حراسة القبر وختمه. تذكرون؟ كُنَّ يُفكّرنَ في الحجر: “من يدحرج لنا الحجر عن باب القبر؟” لقد نسي الجميع أمام أحداث الصليب المرعبة أمر قيامة الرب، لذلك كانت النسوة يفكرن في الحجر الذي يغلق باب القبر، ولم يفكرن في ذلك القادر أن يقوم والأبواب مغلقة… تفكير بشري بحت، لا عجب والرعب قد استولى على الجميع منذ ليلة الخميس.. حقاً كانت ليلة صعبة جداً على التلاميذ التي انهارت آمالهم فجأة…

لكن.. هذا الحجر ما هو إلا حرفية الناموس الذي كُتب على حجارة، وهذه الحرفية يجب دحرجتها (بنعمة الله) عن قلوبنا البشرية كي نستطيع أن ننظر ونفهم الأهداف الإلهية، ونتقبل روح الإنجيل المُحيي.. قلوبنا مختومة وعيوننا مغلقة، لهذا لا نرى أمامنا روعة بهاء القبر المفتوح على وسعه ليصلنا بالأبديّة !

قام الرب والحجر مختوم على باب القبر، كذلك وُلد من البتول مريم وهي عذراء بحسب ما ترمز إليه نبوءة حزقيال (حز 44: 1-3). لنعُدْ قليلاً إلى الحجر بصورة قصيرة فقط.. دحرجة الملاك للحجر عن باب القبر، كانت فقط إعلانٌ عن القيامة، حتى وإن بقي الحجر مختوماً، أقله هكذا يظنون أن جسده لا يزال في القبر… أيضاً لن أقف عند حرفيّة النص، بل سأتوسع بالتأمل وأنتقل فوراً إلى داخل القبر الجميل المُفعم بشذى القيامة المجيدة.

لقد قدّم لنا الإنجيليون أكثر من زيارة للنسوة إلى القبر، وصوّر لنا كل منهم أكثر من منظر حتى يُكَمل بعضهم البعض أحداثَ القيامة. هنا يحدثنا الإنجيلي مرقس عن دخول النسوة إلى القبر ليشاهدن ملاكاً على شكل شابٍ يجلس عن اليمين ومُرتدياً حلة بيضاء. في أول نقطة نقول أن هذا الدخول لا يعني دخولهم الفعلي داخل القبر، وإنما اقترابهنّ منه جداً، أو تكفيهنَّ العتبة ليرينَ بوضوح تام كل ما يوجد أو لا يوجد في القبر… لقد رأينَ ملاكاً في الداخل، مع أنهن رأين غيره منذ هنيهات يسيرة في الخارج! نفهم والحالة هذه، أن الملائكة كانوا داخل القبر وخارجه أيضاً. لقد تحول ذلك القبر إلى سماء تشتهي الملائكة نفسها أن تسكن فيه بعدما كانت القبور في نظر (الناموس آنذاك) تمثل النجاسة، لا يسكنها سوى الموتى والمصابون بالبرص أو من بهم أرواح شريرة، وكانوا يعتقدون أن كل من يلمس قبراً يصير دنِساً ويحتاج إلى تطهير. المشهد هنا يدعونا لفكرة تقول: دخول السيد المسيح إلى القبر قد نزع عنه دنسه وحوّله إلى موضع بركة، يشتهي المؤمنون في العالم كله أن يلتقوا فيه، ويتمتعوا ببركة الحيّ الذي هجره بألوهيّة فائفة أعجزت الطبيعة منذ أن وُجدت.

لا زلنا بجو من التحليل والتأمل للمشهد الذي نقرأه بين السطور.. لـنُـتابع.

ظهر الملاك على شكل شاب، وليس على شكل طفل أو شيخ، وكأن هذا الشاب الذي كان وكأنه يكرز بعلامات القيامة، يقدم لنا في شخصه سمة الحياة المُقامة في الرب، الحياة التي لا تعرف عدم نضوج الطفولة ولا عجز الشيخوخة. إنما هي دائمة القوة والنضارة، لا تضعف ولا تشيخ. أما جلوسه عن اليمين يرتدي حلة بيضاء، هذا يُشير إلى حياتنا المُقامة في الرب التي ترفعنا لنوجد عن يمين الله، حيث نلبس حلة الطهارة والفرح وعدم الخوف (ثياب البَزْ النقيّة)… تذكرون؟ لا خوف بعد اليوم، وهذا وعدٌ من الرب نفسه…

أما الرسالة التبشيريّة لهذا الملاك تحتوي على:

– إعلان رسالة القيامة لمن يطلب المصلوب، وكأنه لا يستطيع أحد أن يتقبل رسالة القيامة في حياته الداخلية أو يلتقي بالسيد المسيح القائم من الأموات ما لم يطلبه بشوق حقيقي في أعماقه الداخلية تائباً عن كل ما سلف من خطايا في حياته.

– هذا وبالرغم من قيامة الرب، نقرأ أن الملاك قد لقّبه (بالناصري المصلوب)، فتعبير (ناصري) يُشير إلى تجسده حيث نشأ في الناصرة، وصار ناصرياً، وكأن قيامته أكدت تجسده، وحققت الرسالة التي لأجلها جاء. أما كلمة (المصلوب)، ذلك لأن القيامة لم تنزع عن السيد المسيح سمته كمصلوب، إنما أعلنت قبول ذبيحة الصليب. نقرأ في العهد القديم أن الله أرسل ناراً لتلتهم الذبيحة التي قدمها إيليا مؤكداً قبوله إياها، أما في العهد الجديد فجاءت القيامة تعلن مجدَ ذبيحة الصليب، لا بالتهام الذبيحة بل بإعلان قوة الحياة التي فيها، إذ هي ذبيحة المسيح الحيّ القادر أن يقوم من بين الأموات… إذن، القيامة جعلت ذبيحة الصليب حاضرة على الدوام لتهب قوة القيامة لمن ينعم بالشراكة فيها.

– أيضاً، إذا كانت النسوة قد التقين بالقبر حيث المسيح القائم من الأموات، هذا الأمر يعني، (هذا رأي شخصي)، أنهنَّ تمتعن بقوة الشهادة للسيد المسيح أمام الآخرين: “اذهبن وقلن لتلاميذه ولبطرس أنه يسبقكم إلى الجليل، هناك ترونه كما قال لكم”. فعلاً جاءت النسوة وكان الحزن يملأ قلوبهنَّ، لكن قيامة السيد حولت الحزن إلى فرح، وأعطتهن إمكانية الكرازة بالقيامة لينطلق الجميع نحو الجليل كي يلتقي بالقائم من الأموات بحسب وعده لهم.

– هذه الدعوة جاءت ليلتقي الكل به في “الجليل”، التي تعني (العبور). فإن كان السيد قام من بين الأموات، هذا يعني أنه سيعبر بنا من الموت إلى الحياة، ومن الألم إلى مجد القيامة، ومن إنساننا القديم إلى الحياة الجديدة التي صارت لنا فيه. وهنا نرى فيما بعد (عبور التلاميذ) إلى الأمم للكرازة بينهم بعد أن فتح لهم الطريق بقوله “ها أنا أسبقكم إلى الجليل”.

بعد كل هذا، نرى فرح المجدليّة التي تمتّعتْ بهذا اللقاء، وما إن استراحت من مملكة إبليس حيث كان في داخلها سبعة شياطين كما يذكر الكتاب المقدّس، حتى التهب قلبها بالتمتع بالقائم من الأموات، ذاك الذي يُقيم مملكته فيها. بمعنى آخر، لا نستطيع أن ننعم ببهجة قيامته فينا وملكه في أعماقنا ما لم نُسلمه القلب ليطرد ما فيه من شر ويقيم بداخله وحده. ( النقاوة لا تحتمل الشرَّ أبداً)…

رأته المجدلية باكراً في أول الأسبوع (اليوم الأوّل كما أسلفنا) أي بعد أن أبعدّتْ ظلام الليل عن قلبها، وتمتعت به بعدما خرج منها الشياطين السبعة. لهذا نتأمّل بالفكرة التالية: إن أردتم أن تجدوه، فالشمس قد أشرقت الآن، تعالوا مثل هؤلاء النسوة، بمعنى، ليته لا يكون في قلوبكم ظلام الشر، لأن شهوات الجسد والأعمال الشريرة هي ظلام. ومن كان في قلبه ظلام من هذا النوع لا يعاين النور ولا يُدرك المسيح، لأن المسيح هو نور، فالظلمة والنور لا يلتقيان أبداً …

ظهر لهم القائم من بين الأموات وقدم لهم إمكانية البشارة للخليقة كلها، حتى إذ ينعم الرسل بالحياة الجديدة في الرب، يقدمون بدورهم (قوة القيامة)…

نُلاحظ في حديث ربنا يسوع مع تلاميذه بعد قيامته ما يلي:

– توبيخ السيد على عدم إيمانهم ليحل محله التسليم. وبخهم على قسوة قلوبهم الحجرية لتحل محلها القلوب اللحمية المملوءة حباً لأخوتهم. هذا هو أول عمل في حياتنا حينما نفهم قيامة السيد، يكون بتغـيّرنا داخلياً مرة واحدة وكاملة، فنحمل إيماناً حياً وقلباً يطفح حبّاً. بمعنى أن يشمل التغيير الإيمان والعمل مُتّحدين معاً، هو يهبنا الإيمان به وهو الذي يعمل فينا وبنا. لا شيء يُمكن أن يفعله الإنسان بدون المسيح. “كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان”.

– حينما يتمتعون بعمل القيامة فيهم، ينالون الإيمان الحي، فيتمتعون بتغيير القلب لممارسة الحياة الفاضلة. في الرب صارت لهم الوصية أن يكرزوا في العالم كله وللخليقة كلها. فالقيامة تنزع عن الكارز انغلاق القلب وضيقه وترفعه فوق كل تعصّب كي يرى في نفسه أنه كسائر البشر. لقد سقط تحت ثقل الموت وقام دون فضل من جانبه، لذا يود أن يقوم العالم كله وينعم بالحياة الجديدة المجانية. هذا هو المُبشّر الحقيقي… لقد بدأ الإنجيلي هذا السفر بالصوت الصارخ في البرية، ويختمه بدعوة للرب للكرازة في العالم كله، أي (الخليقة كلها). هو كصوت يدوي في البرية. دون خوف من شيء أو أحد.. وفي النهاية عليه أن يشهد للحق ولصاحب هذا الحق دون أي شيء آخر…

– الآن، يمكن أن نفهم (بالخليقة) كل الأمم..  كما يقدم لنا هذا التعبير تفسيراً رمزياً بأن (الخليقة) تعني الإنسان بكليته، فهو يشترك في جوانب معينة مع الحجارة التي لا تحيا ولا تشعر، ومن جانب آخر مع النباتات التي تعيش ولا تشعر، وفي جانب ثالث مع الحيوانات التي تحيا وتشعر لكن بلا بصيرة، وفي جانب أخير مع الملائكة العاقلين.. الكرازة للإنسان هي كرازة لكل الخليقة فيه بتقديسه تقديساً كاملاً تُحاكي قداسة الله. “كونوا قدّيسين لأني أنا قدوس” 1بطرس 1: 14-16.

هنا سأبحر بشكل أوسع وبسرعة لأمر على فكرة (خاصة لكني أراها كجزء مهم).

– كل هذا يُدخلنا إلى الفكرة التالية: المعمودية الملتحمة بالإيمان هي الموضوع الرئيسي للخلاص، خلالها ينعم طالب العماد بالحياة المُقامة الجديدة، إذ يقول: “من آمن واعتمد خلص، ومن لم يؤمن يُدان”. ليس بأم وأب، ليس باجتماع بشر، ولا بآلام المخاض نولد ثانية، ولكن من الروح القدس تُصنع أنسجة طبيعتنا الجديدة التي تليق بالسماء، ومن الماء نرتوي، ومن الماء نُولد سراً كما من الرحم. في العماد يتحقق عربون ميثاقنا مع الله: الموت والدفن والقيامة والحياة، يحدث هذا كله دفعة واحدة. هذا لأن “الذي لا يؤمن بالإبن لن يرى حياة، بل يمكث عليه غضب الله”.

– أعطاهم إمكانيات ليست من عندهم بل هي عطاياه (هو) لتسندهم في الكرازة، مثل إخراج الشياطين وعمل الآيات والتكلم بالألسنة، ليكرزوا بين من لا يفهمون لغتهم .. أعطاهم كل شيء، ونحن لا نلمس في هذه العطايا قوة إنسان، بل نعمة الله التي هي من يعمل في كل شيء.

يختم مرقس بصعود الرب إلى السماء وانطلاق التلاميذ للخدمة، إذ يقول: “ثم أن الرب بعدما كلمهم ارتفع إلى السماء، وجلس عن يمين الله. وأما هم فخرجوا وكرزوا في كل مكان، والرب يعمل معهم، ويثبت الكلام بالآيات التابعة.

إن كان إنجيل مرقس البشير هو إنجيل المسيح العامل لحساب الكنيسة، هذا يعني أنه عمل الكثير من أجل كنيسته الخفية فيه، إرتفع إلى فوق لكي تعمل الكنيسة من أجل المسيح الحاضر فيها بروحه. إرتفع إلى فوق، وجلس عن يمين الآب، لكي يهب كنيسته الجلوس في حضن أبيه، أو عن يمينه.. نعم في تلك المكانة الرفيعة…

هنا نتذكّر  كيف ارتفع النبي إيليا في مركبة ليُظهر أن الإنسان القدّيس يحتاج إلى معونة غيره… لكننا لا نقرأ عن مخلصنا أنه صعد بواسطة ملائكة أو مركبة، فإن الذي صنع كل شيء بسلطانه (هو)، هو فوق الكل دون أدنى شك.  كلنا يعلم أن (أخنوخ) هو الذي نُقل وإيليا الذي ارتفع إلى السماء، وهذان من أجمل الرموز عن صعود الرب. كانا بالنسبة له معلنين وشاهدين على صعوده، واحد قبل الناموس والآخر تحت الناموس، حتى يأتي ذاك الذي يقدر(بحق) أن يدخل السماء…

أشير في النهاية إلى أننا نقدر أن نفهم فكرة جلوسه عن يمين الآب وبكامل جسده، كما لو أن الآب عن اليسار والإبن عن اليمين، إنما نفهم اليمين بمعنى السلطان الذي قبِله من الآب لكونه إنساناً يُمثّلُ جنسنا كبشر لكي يأتي ويدين، ذاك الذي جاء أولاً لكي يُحكَم عليه. فإن كلمة (يجلس) تعني (يسكن) وهو مُمجّد ويسكن في قُدسيّته التي تُسمى يمين الله. تماماً كجلوس لعازر الفقير في أحضان إبراهيم.. لتسهيل الفكرة. هنا الجلوس لا يكون بالضرورة في الحضن،إنما يُشير إلى المكانة الخاصة التي حظي بها، فجلس بمكان مرموق إلى يمين إبراهيم أو في صدر المكان.

يؤكد الإنجيلي أن الرب الذي ارتفع إلى السماوات يعمل مع الكارزين ويثبت الكلام بالآيات، فإن كان قد ارتفع إلى فوق ممجداً، ما فتيء يعمل إلى أن ترتفع الكنيسة كلها معه، وفيه تنعم بشركة أمجاده.

أتمنى لكم ولعائلاتكم وأحبّائكم عيداً مجيداً، قائلين بملء الإيمان أن المسيحَ قام حقاً قام ونحن شهودٌ على هذا القيامة.

نـبـيـل طـنّـوس

April 14, 2019

!!!مملكتي ليست من هذا العالم

مملكتي ليست من هذا العالم!!!
مهما أبدعت الأقلام، أم حاولت عقول المُفكرين إدراك أبعاد هذه الجملة، أقول سلفاً بأنها ستفشل بالتأكيد. برأيِ المتواضع، هذا الحوار( القصير جداً ) بين المسيح وبيلاطس، يستحق أن يكون كتاباً لوحده، لما يحمله من أبعاد غاية في الدراماتيكيّة التي ترقى عن البشريّات أياً كان حجمها ومهما بلغت عظمتها… بناءً على اتهامات اليهود سأل الوالي ربّنا يسوع المسيح: “أأنت ملك اليهود”؟. هنا أدعو بالقول، لنكن مُبصرين قليلاً. ذلك لأن الحاكم هنا لم يكن مهتماً على الإطلاق بالتهمة الموجّهة ليسوع، لأنها لا تستطيع أن تهزّ عرش قيصر ( الأرضي طبعاً ). من جهة ثانية، هذه التهمة لا توصل المخلص إلى الصليب. الوالي كان قاضياً وقادراً على إنهاء الأمر بمجرد أمر بسيط وينتهي الأمر هنا.. لكن بدل ذلك نسمعه يسأل المسيح: ماذا فعلت؟ أجاب يسوع: “مملكتي ليست من هذا العالم”. ما معناه أن المصدر ليس الأرض.. ما معناه ( مع ذلك اؤكّد أني ملك ووظيفتي تنحصر في هذا ): “أنا ما ولدت وأتيت العالم إلا لأشهد للحق. فكل من كان من الحق يصغي إلى صوتي”. مرّة جديدة، دعونا نتأمل بالفكرة قليلاً…
نرى في الإنسانية كلّ يوم، أنه يوجد أناس، وهم كُثر، ليسوا مؤهلين لأن يحكموا أو أن يتعاطوا السياسة، أو ليسوا مؤهلين للأماكن التي يشغلونها أصلاً ( ولعلهم ) يشهدون للحق.. ربّما… قال يسوع مرة: “من أجلهم (أي التلاميذ) أقدس ذاتي” وتعني هذه الكلمة لغوياً ( أنني مُخَصَّصٌ لله أو متخصص بشأن الله على صورته. والمعنى بالنسبة للمؤمن ( لي لغته )، لأنه هو الذي نزل إليّ وساكَنَني لأني تواضعت أمامه ). أما إذا بنيت لي برجاً كما في بابل قديماً لأصعد إلى الله بقوتي الذاتيّة مع بعض المستكبرين، فإنه يهدم البرج ويـبلبل ألسنتنا. ما معناه أنه يجعل في كل إنسان معانٍ تختلف عن المعاني الأخرى وليس لله مكان في هذه اللغات ولا يملك الله علينا لأنه لم يبقَ هو ملك الألسنة كلها، ولا هو الوحيد في القلب البشري، فصار لكل إنسان قلب، أي أضحى القلب وكراً للأفاعي وتمزقت الأفاعي في القتال فيما بينها وصارت لهم ممالك كلها من الأرض، وما عادت (الأنا الأنانية) لتكون نحن… من المُحال أن تُنبت الأرض مملكة لله أو حتى تليق به كخالق له ما له من كل شيء… لذلك قال يسوع الذي نزل هو أيضاً مع كلماته من السماء لممثل روما (الأرضية): “مملكتي ليست من هذا العالم”. يعني ( طُب نفساً وقُر عيناً فأنا لم آتِ كي أسلبك ما هو لك فهو لا يهمّني أبداً ) “ما لقيصر هو لقيصر وما لله هو لله” الكلام واضح جداً لأي كان…
أيضاً ما معناه.. أنا والعالم ليس لنا لسان واحد إلا إذا رأى أن هذا العالم مدعو لأن يكون “على وسعه وامتداده ” ملكاً للسماء أو يكون السماء نفسها…
ربما كان القليلون يفهمون أن هذه المملكة التي جاءت لتشهد للحق وأن لسانها لسان الحق فقط، وربما لا تعي أن وسائل التخاطب تملك رسائل الحق.. بمعنى أنها جاءت لتقدّس ذاتها حتى اندماج لغتها بلغة الله، الأمر الذي يجعلها قائمة على قداسة الحق. هذا أيضاً يرتقي بمملكة المسيح فوق مستوى ماديّات العالم وملكيته ونفوذه.
تعالوا لنتأمّل الآن بما قصده السيد المسيح بكلامه “مملكتي ليست من هذا العالم” لهذا قلت في البداية أن المشهد يستحق كتاباً كاملاً من التحليل العميق لكي نفهم أبعاد كلمات يسوع له المجد. لقد كان يعني تماماً أنه جاء بلغة جديدة، بكلمة جديدة.. وهو الكلمة… وأن عليك أنت ( أيها السامع ) أن تتبعها وتتبناها لأنك إن لم تفعل لا تكون قد قبلت التغيير الكامل للتكوين البشري، وإنك تستعمل فقط مصطلحات من كلام يسوع وقناعتك لا تأتي من حيزه في الحقيقة وتظن أنها منه، لأن لك دوراً اجتماعياً أو مكانة أو نفوذاً يبيحون لك أن تكون مملكتك من هذا العالم أو مكونة منه، لتكون على حكمة هذا العالم وحذقه، وتستمتع بذكائك الذي هو أيضاً من (هذا العالم) وتحسب أنه لك من الله لكون الله مصدر الذكاء الذي لا يُحدْ. هل أقول لك هنيئاً لك بعالمك هذا أم أنك تعي هذا لوحدك؟…
قبل أن يقول يسوع: “مملكتي ليست من هذا العالم أي أنه ( أعلن عن انتماء تلاميذه إلى مملكته ). المعنى هنا هو أنهم مثلي ليسوا من هذا العالم كما أني لست من هذا العالم فتكرّسوا بالحق”. وعن هذا الحق هم مسؤولون، وعليهم أن يشهدوا للحق لا أن يتّبعوا سياسة هيرودس والأحبار وبيلاطس وكل ما هو من هذا العالم… ( أن يشهدوا للحق كلمة عميقة جداً )، هي تعني أن يمتلئوا قداسة، أي ألا يكون فيهم غير لاهوت الله ولا يوجد على ألسنتهم إلا ما جاء من الكلمة الذي كان من البدء (أي قبل الكون وقبل سياسته والمالكين عليه)…
“كما أرسلتني إلى العالم فكذلك أنا أرسلهم إلى العالم” أي كما أني لست أقول شيئاً من ذاتي إذ أخذت كل شيء منك، كذلك لن يقولوا شيئاً من ذاتهم ولكن مما أخذوه مني. ليس هناك أي تعريف أهم من تعريفهم بذاتهم، بل هم أنا في اجتهادهم الأعلى وكأنهم من الأزل مثلي كما أني أنا وأنت كنّا قبل الأزل معاً… هنا ألفت النظر إلى أننا دائماً بحالة تأمل للفكرة… لنُتابع ما بقي من حديثنا.
مع كل هذا، يقر بولس الرسول أن في هذا العالم حكمة ومنها حكمة الكلام، غير أنه يوضح أن العالم لم يعرف الله بالحكمة البشرية لأن المسيح ” قوة الله وحكمة الله”. فهل يعني هذا أنه ليس بين الحكمتين حوار، وأن لغة الإنسان الساقط سيبقى إلى الأبد بحالة تباين بين لغته ولغة الله، وأن هناك قدّيسين مفصولين عن الأثمة ؟ السؤال صعب جداً وفلسفي جداً وعميق جداً. لكن إذا تبيّنا أن كلام الله هو سلطانه في العالم، وأن حقيقته هي الحقيقة الحقيقيّة، فما من تسوية ممكنة بين الموقف الإلهي والموقف البشري الساقط في معظم الأحوال.
الإغراء الكبير هنا هو أن تجعل كلمة الإنسان بديلة عن كلمة الله،، وهذه هي التسوية.. أو هذا هو النزول من المستوى الفوقيّ إلى ما هو تحت، بحيث تستعير المنطق البشري ( لتغلف ) به المنطق الإلهي أو تخفيه وتُـقنع نفسك بأنك حكيم وبأنك مُحب وأنك تعمل كل هذا لمصلحة البشر!…
فيكون منطق الحاصلين على حكمة الدهر على هذا النحو… هكذا هم البشر وهذا ما يفهمونه، فلننزل إليهم إذن، فتصير المسيرة في الواقع كالتالي: أن تتبنى حكمة هذا العالم حاسباً نفسك خادماً للحقيقة. هذا هو الوهم الأكبر الذي نقع فيه كبشر لا بل نراه يومياً… برج بابل سقط وتبلبلت الألسنة وصرت أنت من أهل الأرض، وترابها غطّى القليل من النور الذي كان لا يزال فيك. هل أسألك كيف تبدو الرؤية عندك؟
أما كيف تستخدم عبارات هذا العالم وأساليبه وتعرّجاته لتجعل الله ناطقاً فيها.. هذا في الواقع يكون جرّاء عمل النعمة فيك، حيث تُثمر بالسهر الدائم على طهارة مواقفك وبالأخص ضميرك وفي كل شيء. أن تكون بشراً تائقاً إلى الألوهة في كل التزام لك لتتقدس مع أخوتك بالحق، غير حاسب لنفسك أجراً، وجميع ما لديك لا يجعلك متمكناً من حكمة هذا العالم خاصة أنك غير خاضع لها. هذا طبعاً بحال أنك اخترت أن تكون من مملكة المسيح.
ربّما تسأل عزيزي القارئ: كيف يتغيّر عالم الإثم ؟ أقول لك سريعاً وبكل ضمير أنه لا يتغير من فرط الذكاء وكثرة الأذكياء الذين حُبل بهم بالإثم وولدوا ونشأوا في الخطيئة. ما يغيره فعلاً، هم هؤلاء الذين يجلدون أنفسهم بكلمات الحق كل يوم حتى لا تنثني الخطايا في جلودهم ويًخدّر الشرير خلايا أدمغتهم. هكذا فقط يكونون شهوداً للحق أي ليس من فاصل بينهم وبين الحق. العالم يخلص بقليل من الحكمة والكثير الكثير من الحق أو البرّْ مع الحبّ المتواضع، فقط لا غير… هذه المعركة الروحية التي يخوضها المؤمن الحقيقي في طريقه نحو الأعالي، حيث يترك وراءه شيئاً فشيئاً كل ما هو أرضي، وكلما تقدّم تراجعت نسبة أخطائه وهكذا إلى أن يتأهّل للدخول إلى تلك الأماكن المقدّسة ويكون من أهلها. الفقراء دائماً إلى بهاء القديسين حتى يتجلى الرب في الأكثرية فيدخلون مملكته.. إلى مملكة العالم الآخر، مملكة المسيح التي تكلمت عنها في هذه السطور حُباً بصاحبها…

نـبـيـل طـنّـوس