April 14, 2019
!!!مملكتي ليست من هذا العالم
مملكتي ليست من هذا العالم!!!
مهما أبدعت الأقلام، أم حاولت عقول المُفكرين إدراك أبعاد هذه الجملة، أقول سلفاً بأنها ستفشل بالتأكيد. برأيِ المتواضع، هذا الحوار( القصير جداً ) بين المسيح وبيلاطس، يستحق أن يكون كتاباً لوحده، لما يحمله من أبعاد غاية في الدراماتيكيّة التي ترقى عن البشريّات أياً كان حجمها ومهما بلغت عظمتها… بناءً على اتهامات اليهود سأل الوالي ربّنا يسوع المسيح: “أأنت ملك اليهود”؟. هنا أدعو بالقول، لنكن مُبصرين قليلاً. ذلك لأن الحاكم هنا لم يكن مهتماً على الإطلاق بالتهمة الموجّهة ليسوع، لأنها لا تستطيع أن تهزّ عرش قيصر ( الأرضي طبعاً ). من جهة ثانية، هذه التهمة لا توصل المخلص إلى الصليب. الوالي كان قاضياً وقادراً على إنهاء الأمر بمجرد أمر بسيط وينتهي الأمر هنا.. لكن بدل ذلك نسمعه يسأل المسيح: ماذا فعلت؟ أجاب يسوع: “مملكتي ليست من هذا العالم”. ما معناه أن المصدر ليس الأرض.. ما معناه ( مع ذلك اؤكّد أني ملك ووظيفتي تنحصر في هذا ): “أنا ما ولدت وأتيت العالم إلا لأشهد للحق. فكل من كان من الحق يصغي إلى صوتي”. مرّة جديدة، دعونا نتأمل بالفكرة قليلاً…
نرى في الإنسانية كلّ يوم، أنه يوجد أناس، وهم كُثر، ليسوا مؤهلين لأن يحكموا أو أن يتعاطوا السياسة، أو ليسوا مؤهلين للأماكن التي يشغلونها أصلاً ( ولعلهم ) يشهدون للحق.. ربّما… قال يسوع مرة: “من أجلهم (أي التلاميذ) أقدس ذاتي” وتعني هذه الكلمة لغوياً ( أنني مُخَصَّصٌ لله أو متخصص بشأن الله على صورته. والمعنى بالنسبة للمؤمن ( لي لغته )، لأنه هو الذي نزل إليّ وساكَنَني لأني تواضعت أمامه ). أما إذا بنيت لي برجاً كما في بابل قديماً لأصعد إلى الله بقوتي الذاتيّة مع بعض المستكبرين، فإنه يهدم البرج ويـبلبل ألسنتنا. ما معناه أنه يجعل في كل إنسان معانٍ تختلف عن المعاني الأخرى وليس لله مكان في هذه اللغات ولا يملك الله علينا لأنه لم يبقَ هو ملك الألسنة كلها، ولا هو الوحيد في القلب البشري، فصار لكل إنسان قلب، أي أضحى القلب وكراً للأفاعي وتمزقت الأفاعي في القتال فيما بينها وصارت لهم ممالك كلها من الأرض، وما عادت (الأنا الأنانية) لتكون نحن… من المُحال أن تُنبت الأرض مملكة لله أو حتى تليق به كخالق له ما له من كل شيء… لذلك قال يسوع الذي نزل هو أيضاً مع كلماته من السماء لممثل روما (الأرضية): “مملكتي ليست من هذا العالم”. يعني ( طُب نفساً وقُر عيناً فأنا لم آتِ كي أسلبك ما هو لك فهو لا يهمّني أبداً ) “ما لقيصر هو لقيصر وما لله هو لله” الكلام واضح جداً لأي كان…
أيضاً ما معناه.. أنا والعالم ليس لنا لسان واحد إلا إذا رأى أن هذا العالم مدعو لأن يكون “على وسعه وامتداده ” ملكاً للسماء أو يكون السماء نفسها…
ربما كان القليلون يفهمون أن هذه المملكة التي جاءت لتشهد للحق وأن لسانها لسان الحق فقط، وربما لا تعي أن وسائل التخاطب تملك رسائل الحق.. بمعنى أنها جاءت لتقدّس ذاتها حتى اندماج لغتها بلغة الله، الأمر الذي يجعلها قائمة على قداسة الحق. هذا أيضاً يرتقي بمملكة المسيح فوق مستوى ماديّات العالم وملكيته ونفوذه.
تعالوا لنتأمّل الآن بما قصده السيد المسيح بكلامه “مملكتي ليست من هذا العالم” لهذا قلت في البداية أن المشهد يستحق كتاباً كاملاً من التحليل العميق لكي نفهم أبعاد كلمات يسوع له المجد. لقد كان يعني تماماً أنه جاء بلغة جديدة، بكلمة جديدة.. وهو الكلمة… وأن عليك أنت ( أيها السامع ) أن تتبعها وتتبناها لأنك إن لم تفعل لا تكون قد قبلت التغيير الكامل للتكوين البشري، وإنك تستعمل فقط مصطلحات من كلام يسوع وقناعتك لا تأتي من حيزه في الحقيقة وتظن أنها منه، لأن لك دوراً اجتماعياً أو مكانة أو نفوذاً يبيحون لك أن تكون مملكتك من هذا العالم أو مكونة منه، لتكون على حكمة هذا العالم وحذقه، وتستمتع بذكائك الذي هو أيضاً من (هذا العالم) وتحسب أنه لك من الله لكون الله مصدر الذكاء الذي لا يُحدْ. هل أقول لك هنيئاً لك بعالمك هذا أم أنك تعي هذا لوحدك؟…
قبل أن يقول يسوع: “مملكتي ليست من هذا العالم أي أنه ( أعلن عن انتماء تلاميذه إلى مملكته ). المعنى هنا هو أنهم مثلي ليسوا من هذا العالم كما أني لست من هذا العالم فتكرّسوا بالحق”. وعن هذا الحق هم مسؤولون، وعليهم أن يشهدوا للحق لا أن يتّبعوا سياسة هيرودس والأحبار وبيلاطس وكل ما هو من هذا العالم… ( أن يشهدوا للحق كلمة عميقة جداً )، هي تعني أن يمتلئوا قداسة، أي ألا يكون فيهم غير لاهوت الله ولا يوجد على ألسنتهم إلا ما جاء من الكلمة الذي كان من البدء (أي قبل الكون وقبل سياسته والمالكين عليه)…
“كما أرسلتني إلى العالم فكذلك أنا أرسلهم إلى العالم” أي كما أني لست أقول شيئاً من ذاتي إذ أخذت كل شيء منك، كذلك لن يقولوا شيئاً من ذاتهم ولكن مما أخذوه مني. ليس هناك أي تعريف أهم من تعريفهم بذاتهم، بل هم أنا في اجتهادهم الأعلى وكأنهم من الأزل مثلي كما أني أنا وأنت كنّا قبل الأزل معاً… هنا ألفت النظر إلى أننا دائماً بحالة تأمل للفكرة… لنُتابع ما بقي من حديثنا.
مع كل هذا، يقر بولس الرسول أن في هذا العالم حكمة ومنها حكمة الكلام، غير أنه يوضح أن العالم لم يعرف الله بالحكمة البشرية لأن المسيح ” قوة الله وحكمة الله”. فهل يعني هذا أنه ليس بين الحكمتين حوار، وأن لغة الإنسان الساقط سيبقى إلى الأبد بحالة تباين بين لغته ولغة الله، وأن هناك قدّيسين مفصولين عن الأثمة ؟ السؤال صعب جداً وفلسفي جداً وعميق جداً. لكن إذا تبيّنا أن كلام الله هو سلطانه في العالم، وأن حقيقته هي الحقيقة الحقيقيّة، فما من تسوية ممكنة بين الموقف الإلهي والموقف البشري الساقط في معظم الأحوال.
الإغراء الكبير هنا هو أن تجعل كلمة الإنسان بديلة عن كلمة الله،، وهذه هي التسوية.. أو هذا هو النزول من المستوى الفوقيّ إلى ما هو تحت، بحيث تستعير المنطق البشري ( لتغلف ) به المنطق الإلهي أو تخفيه وتُـقنع نفسك بأنك حكيم وبأنك مُحب وأنك تعمل كل هذا لمصلحة البشر!…
فيكون منطق الحاصلين على حكمة الدهر على هذا النحو… هكذا هم البشر وهذا ما يفهمونه، فلننزل إليهم إذن، فتصير المسيرة في الواقع كالتالي: أن تتبنى حكمة هذا العالم حاسباً نفسك خادماً للحقيقة. هذا هو الوهم الأكبر الذي نقع فيه كبشر لا بل نراه يومياً… برج بابل سقط وتبلبلت الألسنة وصرت أنت من أهل الأرض، وترابها غطّى القليل من النور الذي كان لا يزال فيك. هل أسألك كيف تبدو الرؤية عندك؟
أما كيف تستخدم عبارات هذا العالم وأساليبه وتعرّجاته لتجعل الله ناطقاً فيها.. هذا في الواقع يكون جرّاء عمل النعمة فيك، حيث تُثمر بالسهر الدائم على طهارة مواقفك وبالأخص ضميرك وفي كل شيء. أن تكون بشراً تائقاً إلى الألوهة في كل التزام لك لتتقدس مع أخوتك بالحق، غير حاسب لنفسك أجراً، وجميع ما لديك لا يجعلك متمكناً من حكمة هذا العالم خاصة أنك غير خاضع لها. هذا طبعاً بحال أنك اخترت أن تكون من مملكة المسيح.
ربّما تسأل عزيزي القارئ: كيف يتغيّر عالم الإثم ؟ أقول لك سريعاً وبكل ضمير أنه لا يتغير من فرط الذكاء وكثرة الأذكياء الذين حُبل بهم بالإثم وولدوا ونشأوا في الخطيئة. ما يغيره فعلاً، هم هؤلاء الذين يجلدون أنفسهم بكلمات الحق كل يوم حتى لا تنثني الخطايا في جلودهم ويًخدّر الشرير خلايا أدمغتهم. هكذا فقط يكونون شهوداً للحق أي ليس من فاصل بينهم وبين الحق. العالم يخلص بقليل من الحكمة والكثير الكثير من الحق أو البرّْ مع الحبّ المتواضع، فقط لا غير… هذه المعركة الروحية التي يخوضها المؤمن الحقيقي في طريقه نحو الأعالي، حيث يترك وراءه شيئاً فشيئاً كل ما هو أرضي، وكلما تقدّم تراجعت نسبة أخطائه وهكذا إلى أن يتأهّل للدخول إلى تلك الأماكن المقدّسة ويكون من أهلها. الفقراء دائماً إلى بهاء القديسين حتى يتجلى الرب في الأكثرية فيدخلون مملكته.. إلى مملكة العالم الآخر، مملكة المسيح التي تكلمت عنها في هذه السطور حُباً بصاحبها…
نـبـيـل طـنّـوس
0 Comments
Leave A Comment